سبتمبر 21, 2020

“عالأرض” ... مسارات في هوية المكان

على تلة من غار، والشمس تنثر شعرها على بحرنا المتوسط وتتسرب في تفاصيله، وبينما تغرق مستعمرة "عطيرت" العابرة والغابرة في ظلمة الليل، ينبت الجمهور المتنوع في انتمائه الحزبي، باقة في سلة الرغبة بالتناقض مع الواقع، محتفيا بتباشير القطفة الأولى من بستان مبادرة “عالأرض”. وبينما يناطح العلم العملاق واقع الزيف في مستعمرة "عطيرت"، مذكراً تراب أرضها المغتصبة بهويتها الأبدية، ويعج المكان بالمحتفين من كل حدب وصوب بموسم الخير، تشتعل حنجرة محمود درويش بالترانيم، مذكرا الجميع بأن جوهر الصراع ما زال حول هوية الأرض، ومبشرا من يكتفون بلعن الظلام، بأنه بالقليل من المثابرة يستطيعون إضاءة المكان، وإنها "كانت تسمى فلسطين ... وصارت تسمى فلسطين".

لقد تشرفت شخصيا بحضور فعاليات الإعلان عن المشاريع الفائزة. بداية أعترف بأنني تشككت من قدرة المبادرة على الصمود في ظل جائحة الكورونا والدمار الإقتصادي المرافق لها، وتوقعت بأن الزمن والتحديات والإحباط الوطني سيسدل الستار على المبادرة، وقد أخطأت. فعلى الرغم من الشلل الذ أصاب كافة مفاصل الحياة نتيجة للجائحة والإقتصاد، يبدو أن الجائحة لم تتمكن من عزيمة فريق المبادرة، مما مكنها الوصول الى خط نهاية الميل الأول قبل أيام بإعلان نتائج دورتها الأولى وفوز ستة مشاريع بمنح مالية تمكنها من ترجمة أفكارها الى حقائق على الأرض ترجمة لأهداف المبادرة المعلنة. وقد أثلج صدري شخصيا أن جميع المشاريع الفائزة "شبابية" في فكرتها وإدارتها وتنفيذها، واستمرار إلتزام صاحب المبادرة بها، بإعلانه فتح الباب للمرحلة الثانية من المشاريع المنسجمة مع أهدافها.

لا أعلم إن كان توقيت إعلان المشاريع الفائزة غداة الذكرى السنوية لإعلان مبادئ أوسلو وعشية توقيع اتفاقيات التطبيع الخليجي مع إسرائيلي مقصوداً، ولكنه توقيت ملفت وذو مغزى، وكأن إعلان المشاريع بهذا التوقيت يأتى كرد بليغ عفوي بسيط شعبوي على انتشار الأسرلة والهرولة باتجاهها محليا وإقليميا، وتذكير للغافلين بأن معركتنا الوجودية مع الإستيطان الكولونيالي هي الأساس، وهي أبدية الإشتعال ما دام هناك شبيبة يبتكرون المشاريع المسيسة والإبداعية بنفس الوقت.

تشترك جميع المشاريع الفائزة بالتركيز على توفير مقومات أساسية لنصرة الأراضي المهددة بالمصادرة وزيادة وعي المواطنين حولها، وتمكين الفلاحين من زراعة الأراضي المتاخمة للمستعمرات، وزيادة الإقبال على ارتياد مناطق التماس مع المستوطنين والعمل على وأد أحلامهم، ورفع وتيرة الإهتمام بها شعبيا، وفتح مسارات سياحة داخليه بين تضاريسها، إضافة الى توفير آليات الإنذار المباكر حول الهجمات الإستيطانية عليها، والأهم من ذلك أنها مشاريع تلتحم بأكثر الأراضي المهددة بالمصادرة، وأكثر الأراضي غير المطروقة أو المهمشة فلسطينيا، وأكثر الأراضي تقاطعا مع جشع الإحتلال، وتأتي من محافظات مختلفة.

لقد تقدم 800 مشروع للتنافس والفوز بمنح “عالأرض”، وبعد غربلتها، تمت دراسة 120 مشروع بتعمق، وانتهى المطاف بتمويل ستة منها. برأيي يحسن القائمون على المبادرة بنشر جميع المشاريع المتنافسة (على صفحة “عالأرض”)، وفتح المجال لمن يرغب من المواطنين والمستثمرين والقطاع الخاص لتمويل بعضها أو الإستثمار فيها، إضافة الى نشر كافة التفاصيل الخاصة بالمشاريع الفائزة، وتوثيق التقدم في تنفيذها وفتح المجال لزيارتها من المواطنين. وقد يكون من المفيد أن تتقدم مبادرة “عالأرض” خطوة الى الأمام وتعرض مشاريع على صفحتها، ترى أنها تستحق التشجيع والدعم لمن يرغب بتبنيها.


إن مسؤولية الدفاع عن الأرض وصد المستوطنين ووقف بلطجتهم وعدوانهم فردية وجماعية، ولا يهمني شخصيا تفاصيل أي مشروع يكرس ذلك بغض النظر عن صاحبه وعنوانه وهويته، وإنما المساهمة في تنفيذه تمويلا أو تطوعا أو ترويجا أو أي فعل من أي نوع كان يساهم في تعرية العدوان الصهيوني الكولونيالي على أرضنا. المهم برأيي أن نعمل على ترسيخ هوية الأرض الفلسطينية ونزرع الامل بالقدرة على حمايتها، ونفتح الأعين الغافلة على مخاطر تهويدها، ونستمر في دق الجدران وقرع جرس الانذار لتعظيم الإصطفاف في مواجهة قطعان المستوطنين. ولذلك، يستحق صاحب المبادرة ولجنة التحكيم وجميع العاملين فيها كل الشكر والإشادة والتمنيات باستمرار العطاء. وكما أشرت في مقال سابق حول هذه المبادرة، فإنها تفتح الباب واسعا لبلورة خطط ومشاريع هجومية في مجال مقاومة الإستيطان بطرق سلمية وشعبية، تعوض الفراغ المستشري في هذا المجال وتقصير النظام الساسي الفلسطيني في حماية الأرض من غول الإستيطان.

من تجربتي الشخصية المتواضعة، فإن شعبنا تواق لمثل هكذا نشاط، وهو متسعد وجاهز للبذل في سبيل إنجاحه، خاصة إذا كان وطنيا خالصا غير مبني على أجندات شخصية تلميعية، كما هو الحال في العديد مما نشهده على الأرض. ما زلت متفائلا بأن تستقطب هذا المبادرة اهتمام المواطنين بالعطاء في مواجهة الإستيطان، ولا يهم إن كان بالرأي أو المشورة أو الوقت أو المال. وكما أسست إسرائيل صناديق مختلفة لدعم السيطرة على الأرض الفلسطينية ونشر الإستيطان، ماذا ينقصنا لتعزيز التلاحم مع الأرض والعطاء بسخاء في سبيل ذلك، خاصة في ظل انهيار المسار السياسي وسعي إسرائيل لضم الأغوار وغيرها.

كما أسلفت في مقالي آنف الذكر، وهو بعنوان (مبادرة “عالأرض” ... ضوء ساطع في النفق)، ف "إن فلسطين بحاجة ماسة لأطنان من المبادرات الخاصة بتكريس الهوية الوطنية وبعث الأمل في المستقبل ... وإنني لعلى ثقة من واقع تجربتي المتواضعة بأن هذه المبادرة وغيرها من جهود تثبيت هوية المكان، خلقت لتعيش وتنمو وتتفرع وتسهم في عودة الأمل بوطن حر أبي ... فهل رجال وسيدات الأعمال وشركات ومؤسسات القطاع الخاص على قدر التحدي؟ ... هذا ما ستكشفه الأيام."

للأسف، لم تكشف الأيام تقدما في هذا المجال بحدود ما أعلم، وإنني أتساءل في ظل الدمار القائم وتعاظم شهية المستوطنين بقضم الأرض وتهويدها، ترى ماذا ينقص القطاع الخاص والميسورين لإطلاق مبادرات مماثلة أو إنشاء صندوق وطني منافس لدعم مبادرات التمسك بالأرض والحفاظ على فلسطينية المكان؟. إن الوطنية عقيدة وممارسة، ولا يكفى أن نكون متشبثين بالعيش في ديارنا، وإنما العمل على صونها من غول الإستيطان، وهذا أضعف اللإيمان.

في هذا السياق، فإنني أكرر اقتراحي بإنشاء صندوق غير ربحي ممول شعبيا فرديا ومؤسسيا في الوطن والشتات، تكرس موارده لتمويل لمبادرات ونشاطات واستثمارات تستهدف محاصرة النشاط الإستيطاني وحقائقه المدمرة لطموحنا السياسي بالحرية والإستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية على ترابنا الوطني. في غابر الأزمان، تربى الطلبة في الضفة الغربية على التبرع بمصروفهم أيام السبت لصندوق تحرير الجزائر، فهل هناك أمل بأن نشهد ولادة صندوق لتحرير أرضنا من الإستيطان؟.

هنيئا للفائزين، ونتطلع الى معايشة نمو مشاريعهم والإحتفال بمساهمتها في محاولة الإحتفاظ بهوية المكان، ونهنئ لجنة التحكيم وصاحب المبادرة على استكمال الخطوة الأولى في مسيرة “عالأرض” بتمويل هذه المشاريع، ونأمل أن لا يطول الزمن قبل إعلان نتائج المرحلة الثانية في عمرها الطويل.